الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
.ذكر حصر خوارزم شاه هراة وعوده عنها: وكان سبب قصد خوارزم شاه حصار هراة أن رجلين أخوين، ممن كان يخدم محمداً سلطان شاه، اتصلا بغياث الدين، بعد وفاة سلطان شاه، فأكرمهما غياث الدين، وأحسن إليهما، يقال لأحدهما الأمير الحاجي، فكاتبا خوارزم شاه، وأطمعاه في البلد، وضمنا له تسليمه إليه، فسار لذلك، ونازل المدينة وحصرها، فسلم الأمر عمر المرغني، أمير البلد، مفتاح الأبواب إليهما، وجعلهما على القتال ثقة منه بهما، وظنا منه أنهما عدواً خوارزم شاه تكش وابنه محمد بعده، فاتفق أن بعض الخوارزمية أخبر الحسين المرغني المأسور عند خوارزم شاه بحال الرجلين، وأنهما هما اللذان يدبران خوارزم شاه ويأمرانه بما يفعل، فلم يصدقه، وأتاه بخط الأمير الحاجي، فأخذه وأرسله إلى أخيه عمر أمير هراة، فأخذهما واعتقلهما وأخذ أصحابهما. ثم إن ألب غازي، وهو ابن أخت غياث الدين، جاء في عسكر من الغورية، فنزل على خمسة فراسخ من هراة، فكان يمنع الميرة عن عسكر خوارزم شاه؛ ثم إن خوارزم شاه سير عسكراً إلى أعمال الطالقان للغارة عليها، فلقيهم الحسن بن خرميل فقاتلهم، فظفر بهم فلم يفلت منهم أحد. وسار غياث الدين عن فيروزكوه إلى هراة في عسكره، فنزل برباط رزين بالقرب من هراة، ولم يقدم على خوارزم شاه لقلة عسكره لان أكثر عساكره كانت مع أخيه بالهند وغزنة، فأقام خوارزم شاه على هراة أربعين يوماً، وعزم على الرحيل لأنه بلغه انهزام أصحابه بالطالقان وقرب غياث الدين، وكذلك أيضاً قرب ألب غازي؛ وسمع أيضاً أن شهاب الدين قد خرج من الهند إلى غزنة، وكان وصوله إليها في رجب من هذه السنة، فخاف أن يصل بعساكره فلا يمكنه المقام على البلد، فأرسل إلى أمير هراة عمر المرغني في الصلح فصالحه على مال حمله إليه وارتحل عن البلد. وأما شهاب الدين، فإنه لما وصل إلى غزنة بلغه الخبر بما فعله خوارزم شاه بخراسان وملكه لها، فسار إلى خراسان، فوصل إلى بلخ ومنها إلى باميان ثم إلى مرو، عازماً على حرب خوارزم شاه، وكان نازلاً هناك، فالتقت أوائل عسكريهما، واقتتلوا، فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم إن خوارزم شاه ارتحل عن مكانه شبه المنهزم، وقطع القناطر، وقتل الأمير سنجر، صاحب نيسابور، لأنه اتهمه بالمخامرة عليه، وتوجه شهاب الدين إلى طوس فأقام بها تلك الشتوة على عزم المسير إلى خوارزم ليحصرها، فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين، فقصد هراة وترك ذلك العزم. .ذكر عدة حوادث: وفيها توفيت بنفشة جارية الخليفة المستضيء، بأمر الله، وكان كثير الميل إليها، والمحبة لها، وكانت كثير المعروف والإحسان والصدقة. وفيها أيضاً توفي الخطيب عبد الملك بن زيد الدولعي، خطيب دمشق، وكان فقيهاً شافعياً، هو من الدولعية قرية من أعمال الموصل. ثم دخلت: .سنة تسع وتسعين وخمسمائة: .ذكر حصر عسكر العادل ماردين وصلحه مع صاحبها: وثار التركمان وقطعوا الطريق في تلك الناحية، وأكثروا الفساد، فتعذر سلوك الطريق إلى لجماعة من أرباب السلاح، فسار طائفة من العسكر العادلي إلى رأس عين لإصلاح الطرق، وكف عادية الفساد، وأقام ولد العادل، ولم يحصل له غرض، فدخل الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، صاحب حلب، في الصلح بينهم، وأرسل إلى عمه العادل ي ذلك، فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل هل صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار، فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطاً من أميري، ويخطب له ببلاده، ويضرب اسمه على السكة، ويكون عسكره في خدمته أي وقت طلبه، وأخذ الظاهر عشرين ألف دينار من النقد المذكور، وقرية القرادي من أعمال شيختان، فرحل ولد العادل عن ماردين. .ذكر وفاة غياث الدين ملك الغور وشيء من سيرته: وخلف غياث الدين من الولد ابناً اسمه محمود، لقب بعد موت أبيه غياث الدين، وسنورد من أخباره كثيراً. ولا سار شهاب الدين من طوس استخلف بمرو الأمير محمد بن جربك، فسار إليه جماعة من الأمراء الخوارزمية، فخرج إليهم محمد ليلاً، وبيتهم، فمل ينج منهم إلا القليل، وأنفذ الأسرى والرؤوس إلى هراة، فأمر شهاب الدين بالاستعداد لقصد خوارزم على طريق الرمل، وجهز خوارزم شاه جيشاً وسيرهم مع بوفور التركي إلى قتال محمد بن جربك، فسمع بهم، فخرج إليهم، ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو، فاقتتلوا قتالاً شديداً، قتل بين الفريقين خلق كثير، وانهزم الغورية ودخل محمد بن جربك مرو في عشرة فرسان، وجاء الخوارزميون فحصروه خمسة عشر يوماً، فضعف عن الحفظ، فأرسل في طلب الأمان، فحلفوا له إن خرج إليهم على حكمهم أنهم لا يقتلونه، فخرج إليهم، فقتلوه، وأخذوا كل ما معه. وسمع شهاب الدين الخبر فعظم عليه، وتردد الرسل بينه وبين خوارزم شاه، فلم يستقر الصلح، وأراد العود إلى غزنة، فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازي، وفك الملك علاء الدين محمد بن أبي علي الغوري على مدينة فيروزكوه، وجعل إليه حرب خراسان وأمر كل ما يتعلق بالملكة، وأتاه محمود ابن أخيه غياث الدين، فولاه مدينة بست واسفرار، وتلك الناحية، وجعله بمعزل من الملك جميعه، ولم يحسن الخلافة عليه بعد أبيه، ولا على غيره من أهله، فمن جملة فعله أن غياث الدين كانت له زوجة كانت مغنية، فهويها وتزوجها، فلا مات غياث الدين قبض عليها وضربها ضرباً مبرحاً، وضرب ولدها غياث الدين، وزوج أختها، وأخذ أموالهم وأملاكهم وسيرهم إلى بلد الهند، فكانوا في أقبح صورة؛ وكانت قد بنت مدرسة، ودفنت فيها أباها وأمها وأخاها، فهدمها، ونبش قبور الموتى، ورمى بعظامهم منها. وأما سيرة غياث الدين وأخلاقه، فإنه كان مظفراً منصوراً في حروبه، لم تنهزم له راية قط، وكان قليل المباشرة للحروب، وإنما كان له دهاء ومكر، وكان جواداً، حسن الاعتقاد، كثير الصدقات والوقوف بخراسان، بنى المساجد والمدارس بخراسان لأصحاب الشافعي، وبنى الخانكاهات في الطرق، وأسقط المكوس، ولم يتعرض على مال أحد من الناس، ومن مات ببلده يسلم ماله إلى أهل بلده من التجار، فإن لم يجد أحداً، يسلمه إلى القاضي، ويختم عليه إلى أن يصل من يأخذه بمقتضى الشرع. وكان إذا وصل إلى بلد عم إحسانه أهله والفقهاء وأهل الفضل، يخلع عليهم، ويفرض لهم الأعطيات كل سنة من خزانته، ويفرق الأموال في الفقراء، وكان يراعي كل من وصل إلى حضرته من العلويين والشعراء وغيرهم، وكان فيه فضل غزير، وأدب مع حسن خط وبلاغة، وكان رحمه الله، ينسخ المصاحف بخطه ويقفها في المدارس التي بناها، ولم يظهر منه تعصب على مذهب، ويقول: التعصب في المذاهب من الملك قبيح؛ إلا أنه كان شافعي المذهب، فهو يميل إلى الشافعية من غير أن يطمعهم في غيرهم، ولا أعطاهم ما ليس لهم. .ذكر أخذ الظاهر قلعة نجم من الأفضل: وأما العادل، فإنه لما أخذ سروج ورأس عين من الأفضل أرسل والدته إليه لتسأل في رجهما، فلم يشفعها، وردها خائبة، ولقد عوقب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي، فإنه لما قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة أرسل صاحب الموصل والدته وابنة عمه نور الدين إليه يسألانه أن يعود، فلم يشفعهما، فجرى لأولاده هذا، وردت زوجته خائبة، كما فعل. ولما رأى الأفضل عمه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحب ملطية وقونية، وما بينهما من البلاد، يبذل له الطاعة، وأن يكون في خدمته، ويخطب له ببلده، ويضرب السكة باسمه، فأجابه ركن الدين إلى ذلك، وأرسل له خلعة فلبسها الأفضل، وخطب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملته. .ذكر ملك الكرج مدينة دوين: ثم إن الكرج بعد أن استقر أمرهم بها أحسنوا إلى من بقي من أهلها، فالله تعالى ينظر إلى المسلمين، ويسهل لثغورهم من يحفظها ويحميها، فإنها مستباحة، لا سيما هذه الناحية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد بلغنا من فعل الكرج بأهل دوين من القتل والسبي والأمر ما تقشعر منه الجلود. .ذكر عدة حوادث: وفيها، في رجب، توفي الشيخ وجيه الدين محمد بن محمود المروروذي، الفقيه الشافعي، وهذا الذي كان السبب في أن صار وحيد الدين شافعياً. وفي ربيع الأول منها توفي أبو الفتوح عبيد الله بن أبي المعمر الفقيه الشافعي المعروف بالمستملي ببغداد، وله خط حسن. وفي ربيع الآخر توفيت زمرد خاتون أم الخليفة الناصر لدين الله، وأخرجت جنازتها ظاهرة، وصلى الخلق الكثير عليها، ودفنت في التربة التي بنتها لنفسها، وكانت كثيرة المعروف. ثم دخلت: .سنة ستمائة: .ذكر حصار خوارزم شاه هراة ثانية: وكان القتال دائماً، والقتل بين الفريقين كثيراً، وممن قتل رئيس خراسان، وكان كير القدر يقيم بمشهد طوس؛ وكان الحسين بن خرميل بكرزيان، وهي إقطاعة، فأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أرسل إلي عسكراً لنسلم إليهم الفيلة وخزانة شهاب الدين؛ فأرسل إليه ألف فارس من أعيان عسكره إلى كرزيان، فخرج عليه هو والحسين بن محمد المرغني، فقتلوهم إلا القليل، فبلغ الخبر إلى خوارزم شاه، فسقط في يده وندم على إنفاذ العسكر، وأرسل إلى ألب غازي يطلب منه أن يخرج إليه من البلد ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه، فلم يجبه إلى ذلك، فاتفق أن ألب غازي مرض واشتد مرضه، فخاف أن يشتغل بمرضه فيملك خوارزم شاه البلد، فأجاب إلى ما طلب منه، واستحلفه على الصلح، وأهدى له هدية جليلة، وخرج من البلد ليخدمه، فسقط إلى الأرض ميتاً، ولم يشعر أحد بذلك، وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها. .ذكر عود شهاب الدين من الهند وحصره خوارزم وانهزامه من الخطا: وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو، فأقام بظاهرها، فأعاد إليه شهاب الدين جوابه: لعلك تنهزم كما فعلت تلك الدفعة، لكن خوارزم تجمعنا؛ ففرق خوارزم شاه عساكره، وأحرق ما جمعه من العلف، ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم، فسبقه إليها، فقطع الطريق، وأجرى المياه فيها، فتعذر على شهاب الدين سلوكها، وأقام أربعين يوماً يصلحها حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم، والتقى العسكران بسوقرا، ومعناه الماء الأسود، فجرى بينهم قتال شديد كثير القتلى فيه بين الفريقين، وممن قتل من الغورية الحسني المرغني وغيره، وأسر جماعة من الخوارزمية، فأمر شهاب الدين بقتلهم فقتلوا. وأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم، وهم حينئذ أصحاب ما وراء النهر، فاستعدوا، وساروا إلى بلاد الغورية، فلما بلغ شهاب الدين ذلك عاد من خوارزم، فلقي أوائلهم في صحراء أندخوي أول صفر سنة إحدى وستمائة، فقتل فيهم وأسر كثيراً، فلما كان اليوم الثاني دهمه من الخطا ما لا طاقة له بهمم، فانهزم المسلمون هزيمة قبيحة، وكان أول من انهزم الحسين بن خرميل صاب طالقان وتبعه الناس وبقي شهاب الدين في نفر يسير، وقتل بيده أربعة أفيال لأنها أعيت، وأخذ الكفار فيلين، ودخل شهاب الدين أندخوي فيمن معه، وحصره الكفار، ثم صالحوه على أن يعطيهم فيلاً آخر، ففعل، وخلص. ووقع الخبر في جميع بلاده بأنه قد عدم، وكثرت الأراجيف بذلك، ثم وصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد قتل أكثر عسكره، ونهبت خزائنه جميعها، فلم يبق منها شيء، فأخرج له الحسين بن خرميل، صاحب الطالقان، خياماً وجميع ما يحتاج إليه، وسار إلى غزنة، وأخذ معه الحسين بن خرميل، لأنه قيل له عنه إنه شديد الخوف لانهزامه، وإنه قال: إذا سار السلطان هربت إلى خوارزم شاه؛ فأخذه معه، وجعله أمير حاجب. ولما وقع الخبر بقتله جمع تاج الدين الدز، وهو مملوك اشتراه شهاب الدين، أصحابه وقصد قلعة غزنة ليصعد إليها، فمنعه مستحفظها، فعاد إلى داره فأقام بها، وأفسد الخلج وسائر المفسدين في البلاد، وقطعوا الطرق، وقتلوا كثيراً، فلما عاد شهاب الدين إلى غزنة بلغه ما فعله الدز، فأراد قتله، فشفع فيه سائر المماليك، فأطلقه، ثم اعتذر، وسار شهاب الدين في البلاد، فقتل من المفسدين من تلك الأمم نفراً كثيراً. وكان له أيضاً مملوك آخر اسمه أيبك بال تر، فسلم من المعركة، ولحق بالهند، ودخل المولتان، وقتل نائب السلطان بها، وملك البلد، وأخذ الأموال السلطانية، وأساء السيرة في الرعية، وأخذ أموالهم، وقال: قتل السلطان، وأنا السلطان؛ وكان يحمله على ذلك، ويحسنه له إنسان اسمه عمر ابن يزان، وكان زنديقاً، ففعل ما أمره، وجمع المفسدين، وأخذ الأموال، فأخاف الطريق، فبلغ خبره إلى شهاب الدين فسار إلى الهند، وأرسل إليه عسكراً، فأخذوه ومعه عمر بن يزان فقتلهما أقبح قتلة، وقتل من وافقهما، في جمادى الآخرة من سنة إحدى وستمائة؛ ولما رآهم قتلى قرأ: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا} الآية المائدة: 33، وأمر شاب الدين فنودي في جميع بلاده بالتجهز لقتال الخطا وعزوهم والأخذ بثأرهم. وقيل: كان سبب انهزامه أنه لما عاد إلى الخطا من خوارزم فرق عسكره في المفازة التي في طريقه لقلة الماء، وكان الخطا قد نزلوا على طريق المفازة، فكلما خرج من أصحابه طائفة فتكوا فيهم بالقتل والأسر، ومن سلم من عسكره انهزم نحو البلاد، ولم يرجع إليه أحد يعلم الحال، وجاء شهاب الدين في ساقة العسكر في عشرين ألف فارس ولم يعلم الحال، فلما خرج من البرية لقيه الخطا مستريحين، وهو ومن معه قد تعبوا وأعيوا، وكان الخطا أضعاف أصحابه، فقاتلهم عامة نهاره، وحمى نفسه منهم، وحصروه في أندخوي، فجرى بينهم في عدة أيام أربعة عشر مصافاً منها مصاف واحد كان من العصر إلى الغد بكرة، ثم إنه بعد ذلك سير طائفة من عسكره ليلاً سراً، وأمرهم أن يرجعوا إليه بكرة كأنهم قد أتوه مدداً من بلاده، فلما فعلوا ذلك خافه الخطا، وقال لهم صاحب سمرقند، وكان مسلماً، وهو في طاعة الخطا، وقد خاف على الإسلام والمسلمين إن هم ظفروا بشهاب الدين، فقال لهم: إن هذا الرجل لا تجدونه قط أضعف منه لما خرج من المفازة، ومع ضعفه وتعبه وقلة من معه لم نظفر به، والأمداد أتته، وكأنكم بعساكره وقد أقبلت من كل طريق، وحينئذ نطلب الخلاص منه فلا نقدر عليه، والرأي لنا الصلح معه، فأجابوا إلى ذلك، فأرسلوا إليه في الصلح. وكان صاحب سمرقند قد أرسل إليه وعرفه الحال سراً، وأمره بإظهار الامتناع من الصلح أولاً والإجابة إليه أخيراً؛ فلما أتته الرسل امتنع، وأظهر القوة بانتظار الأمداد، وطال الكلام، فاصطلحوا على أن الخطا لا يعبرون النهر إلى بلاده، ولا هو يعبره إلى بلادهم، ورجعوا عنه، وخلص هو وعاد إلى بلاده، والباقي نحو ما تقدم. .ذكر قتل طائفة من الإسماعيلية بخراسان: .ذكر ملك القسطنطينية من الروم: وكان بالقسطنطينية من الروم من يريد الصبي، فألقوا النار في البلد، فاشتغل الناس بذلك، ففتحوا باباً من أبواب المدينة، فدخلها الفرنج، وخرج ملكها هارباً، وجعل الفرنج الملك في ذلك الصبي، وليس له من الحكم شي، وأخرجوا أباه من السجن، إنما الفرنج هم الحكام في البلد، فثقلوا الوطأة على أهله، وطلبوا منهم أموالاً عجزوا عنها، وأخذوا أموال البيع وما فيها من ذهب ونقرة وغير ذلك حتى ما على الصلبان، وما هو عل صورة المسيح، عليه السلام، والحواريين، وما على الأناجيل من ذلك أيضاً، فعظم ذلك على الروم، وحملوا منه خطباً عظيماً، فعمدوا إلى ذلك الصبي الملك فقتلوه، وأخرجوا الفرنج من البلد، وأغلقوا الأبواب، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ستمائة، فأقام الفرنج بظاهره محاصرين للروم، وقاتلوهم، ولازموا قتالهم ليلاً ونهاراً، وكان الروم قد ضعفوا ضعفاً كثيراً، فأرسلوا إلى السلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحب قونية وغيرها من البلاد، يستنجدونه، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً. وكان بالمدينة كثير من الفرنج، مقيمين، يقاربون ثلاثين ألفاً، ولعظم البلد لا يظهر أمرهم، فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد، ووثبوا فيه، وألقوا النار مرة ثانية، فاحترق نحو ربع البلد، وفتحوا الأبواب فدخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام، وفتكوا بالروم قتلاً ونهباً، فأصبح الروم كلهم ما بين قتيل أو فقير لا يملك شيئاً، ودخل جماعة من أعيان الروم الكنيسة العظمة التي تدعى صوفيا، فجاء الفرنج إليها، فخرج إليهم جماعة من القسيسين والأساقفة والرهبان، بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسلون بهما إلى الفرنج ليبقوا عليهم، فلم يلتفتوا إليهم، وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. وكانوا ثلاثة ملوك: دوقس البنادقة، وهو صاحب المراكب البحرية، وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية، وهو شيخ أعمى، إذا ركب تقاد فرسه؛ والأخر يقال له المركيس، وهو مقدم الإفرنسيس، والآخر يقال له كند أفلند، وهو أكثرهم عدداً، فلما استولوا على القسطنطينية اقترعوا على الملك، فخرجت القرعة على كند أفلند، فأعادوا القرعة ثانية وثالثة، فخرجت ليه، فملكوه، والله يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، فلما خرجت القرعة عليه ملكوه عليها وعلى ما يجاورها، وتكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة إقريطش وجزيرة رودس وغيرهما، ويكون لمركيس الإفرنسيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق، فلم يحصل لأحد منهم شيء غير الذي أخذ القسطنطينية، وأما الباقي فلم يسلم من به من الروم، وأما البلاد التي كانت لملك القسطنطينية، شرقي الخليج، المجاورة لبلاد ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، ومن جملتها أزنيق ولاذيق، فإنها تغلب عليها بطريق كبير من بطارقة الروم، اسمه لشكري، وهي بيده إلى الآن. .ذكر انهزام نور الدين صاحب الموصل من العساكر العادلية: وكان الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل بن أيوب قد سار من مدينة حران إلى رأس عين نجدة لقطب الدين، صاح بسنجار ونصيبين، وقد اتفق هو ومظفر الدين، صاح إربل، وصاحب الحصن وآمد، وصاحب جزيرة ابن عمر، وغيرهم، على ذلك، وعلى منع نور الدين من أخذ شيء من بلاده، وكلهم خائفون منه، ولم يمكنهم الاجتماع وهو على نصيبين، فلما فارقها نور الدين سار الأشرف إليها، وأتاه صاحب الحصن، وصاحب الجزيرة، وصاحب دارا، وساروا عن نصيبين نحو بلد البقعا قريباً من بوشرى، وسار نور الدين من تل أعفر إلى كفر زمار، وعزم على المطاولة ليتفرقوا، فأتاه كتاب من بعض مماليكه، يسمى جرديك، وقد أرسله يتجسس أخبارهم، فيقللهم في عينه، ويطمعه فيهم، ويقول: إن أذنت لي لقيتهم بمفردي؛ فسار حينئذ نور الدين إلى بوشرى فوصل إليها من الغد الظهر وقد تعبت دوابه وأصحابه، ولقوا شدة من الحر، فنزل بالقرب منهم أقل من ساعة. وأتاه الخبر أن عساكر الخصم قد ركبوا، فركب هو وأصحابه وساروا نحوهم، فلم يروا لهم أثراً، فعاد إلى خيامه، ونزل هو وعساكره، وتفرق كثير منهم في القرى لتحصيل العلوفات وما يحتاجون إليه، فجاءه من أخبره بحركة الخصم وقصده، فركب نور الدين وعسكره، وتقدموا إليهم، وبينهم نحو فرسخين، فنزلوا وقد ازداد تعبهم، والخصم مستريح، فالتقوا، واقتتلوا، فلم تطل الحرب بينهم حتى انهزم عسكر نور الدين، وانهزم هو أيضاً، وطلب الموصل، فوصل إليها في أربعة أنفس، وتلاحق الناس، وأتى الأشرف ومن معه، فنزلوا في كفر زمار، ونهبوا البلاد نهباً عظيماً، وأهلكوا ما لم يصلح لهم لا سيما مدينة بَلدَ فإنهم أفحشوا في نهبها. ومن أعجب ما سمعنا أن امرأة كانت تطبخ، فرأت النهب، فألقت سوارين كانا في يديها في النار وهربت، فجاء بعض الجند ونهب ما في البيت، فرأى فيه بيضاً، فأخذه وجعله في النار ليأكله، فحركها، فرأى السوارين فيها فأخذهما. وطال مقامهم والرسل تتردد في الصلح، فوقف الأمر على إعادة تل أعفر، ويكون الصلح على القاعدة الأولى، وتوقف نور الدين في إعادة تل أعفر، فلما طال الأمر سلمها إليهم، وأصطلحوا أوائل سنة إحدى وستمائة، وتفرقت العساكر من البلاد.
|